تركيا- من ليلة الانقلاب إلى نهضة وطنية شاملة

إن الأمم التي تتبوأ مكانة ريادية تضع على رأس أولوياتها احترام سيادة شعوبها، والتأكيد على الحقوق الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الحق الأصيل في التمثيل السياسي العادل، وضمان حرية الممارسة السياسية دون تضييق أو قمع، ورفض أي مصادرة لحقوق الاختيار من قبل فئة قليلة لا تمثل إرادة الشعب، وتسعى إلى رهن مستقبل البلاد بمغامرات متهورة تهدد بتقويض أسس الدولة وإعادتها إلى عصور الفوضى وانعدام القانون.
في مثل هذا اليوم، الخامس عشر من يوليو/تموز، قبل ثماني سنوات مضت، شهدت تركيا محاولة انقلابية خسيسة، نفذتها منظمة "فيتو" الإرهابية (FETÖ)، وهي ليست مجرد تنظيم إرهابي، بل هي أيضًا شبكة تجسس متغلغلة تتستر بعباءة الدين، وتتبع لتعليمات فتح الله غولن. لقد تسللت عناصر هذه المنظمة إلى بعض الوحدات العسكرية، دون علم أو موافقة القيادة العليا للمؤسسة العسكرية التركية المحترفة والوطنية. ولكن هذه المحاولة الآثمة لم تستمر سوى بضع ساعات، حيث استعادت مؤسسات الدولة السيطرة بسرعة وحزم، وطاردت الانقلابيين، والتف الشعب التركي بكامل قواه خلف قيادته المنتخبة بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.
يوم عصيب
لقد كان لهذا الحدث المروع وقعًا عميقًا ومؤثرًا في قلوب الشعب التركي، حيث أطلق هؤلاء الإرهابيون النار بدم بارد على أبناء وطنهم الذين أقسموا على حمايتهم والدفاع عن مصالحهم. إن هذا العمل الشنيع يدمي قلوبنا ونحن نستذكر هذا اليوم العصيب، الذي استشهد فيه 251 من خيرة أبناء هذا الوطن، وجرح فيه أكثر من 2000 شخص من العسكريين والمدنيين الذين تصدوا بشجاعة للمتمردين.
في مواجهة هذه الأحداث الدامية والمفجعة، أظهر الشعب التركي روحًا وطنية عالية والتزامًا راسخًا بالوحدة والتكاتف، والتف حول الراية الحمراء التي ترمز إلى هويته ووحدته. ومن بين المكاسب العظيمة لهذه الوحدة الوطنية، كان اختيار الشعب في استفتاء عام 2017 الانتقال إلى نظام رئاسي جديد يفتح آفاقًا أرحب نحو المستقبل. ومنذ ذلك الحين، بدأت تركيا تحقق إنجازات عظيمة في حماية أراضيها وسمائها، وتعزيز استقلال قرارها السياسي، واستكمال مسيرتها الديمقراطية من خلال إعطاء الكلمة الفصل للشعب، وهو ما تجلى بوضوح في سلسلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية التي جرت بكل سلاسة وشفافية.
لقد كشفت المؤامرة الخبيثة للمحاولة الانقلابية الفاشلة أن البعض، عندما يعجز عن تحقيق أهدافه عبر صناديق الاقتراع، يلجأ إلى صناديق الذخيرة ويفرغها في صدور أبناء شعبه. لذلك، سعى الانقلابيون إلى إخضاع تركيا مرة أخرى لحكم عسكري مستبد، وكانت خططهم الدنيئة تهدف إلى رهن سيادة الدولة ومقدراتها لقوى خارجية معادية لتركيا. إلا أن الشعب التركي يمتلك ذاكرة قوية لا يمكن ترويضها أو محوها، فالأمس القريب ما زال حاضرًا في الأذهان، وآثار الحكم العسكري في القرن الماضي لا تزال ماثلة في ذاكرة جيل كامل من الأتراك، الذين عانوا من الاعتقالات والشهداء والمطاردات والفصل من العمل.
إن البعض ممن يكنون لتركيا الشر لا يدركون أن الشعب التركي شعب ذكي وفطن، وكما أفشلوا مخطط الانقلابيين في ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز 2016، فقد حرموا أيضًا أولئك الذين تحالفوا مع التنظيمات الإرهابية من التحكم في مصير شعبنا، الذي ينشغل الآن برسم ملامح مستقبله الزاهر واستكمال مشروع "قرن تركيا" الطموح الذي أطلقه الرئيس أردوغان، تزامنًا مع احتفال بلادنا بالذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية على يد المؤسس العظيم مصطفى كمال أتاتورك.
لقد حققت تركيا وشعبها مكاسب جمة رغم هذه الأحداث المؤلمة، وأول هذه المكاسب هو القطيعة النهائية مع تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا، من خلال تعزيز المؤسسات الديمقراطية والفصل بين السلطات، وتدعيم الحوار المجتمعي الصادق، والكشف عن الحقائق المتعلقة بالوضع الاقتصادي للبلاد. وقد شهد الاقتصاد التركي تحسنًا ملحوظًا بفضل السياسة المالية الحكيمة، وخطة مكافحة التضخم التي بدأت تؤتي ثمارها مؤخرًا، كما تحسنت تقارير مؤسسات التقييم المالي العالمية، مما عزز الثقة الدولية والمحلية في الاقتصاد التركي، مع تجنب التقلبات الكبيرة في سعر الصرف، وتوجه الأسواق نحو الاستقرار، والبحث عن فرص الاستثمار الواعدة في مختلف القطاعات التجارية والصناعية التركية.
مؤامرة كبيرة
لم تكن خطة الانقلاب مجرد صناعة محلية بحتة، فبالرغم من أن هذه المنظمة الإرهابية كانت الواجهة الظاهرية للانقلاب، إلا أنه من المؤكد أنها نفذت محاولتها استجابة لمؤامرة واسعة النطاق شاركت فيها أطراف دولية خبيثة، قامت بتخصيص المليارات لتمويل هذه المؤامرة، وتسخير وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب والشائعات، والترتيب للاعتراف بالانقلاب والترحيب به فور الإعلان عن نجاحه. ولكن بفضل وقفة الشعب التركي الباسلة في تلك الليلة المشؤومة، تم إجهاض هذه المؤامرة الدنيئة في غضون ساعات قليلة، وإن مرت تلك الساعات كأنها شهور طويلة وثقيلة الوطأة.
وعلى الرغم من كشف المعلومات الداخلية واعتراف أعضاء منظمة "فيتو" الإرهابية FETÖ بتنظيم المحاولة الانقلابية في 15 يوليو/تموز، إلا أن هناك العديد من الأشخاص الذين يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة الساطعة، حيث استولت هذه الشبكة المشبوهة على إراداتهم وعقولهم وضمائرهم. كما أن الهيكل التنظيمي المريب والعناصر الفاسدة التي يتضمنها، تستغل القيم العالمية النبيلة لتحقيق أهدافها الشخصية الخبيثة، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا وخطرًا محدقًا على جميع المجتمعات.
إن تركيا لن تقبل أبدًا من شركائها ولا من الدول الديمقراطية، تقديم أي شكل من أشكال الدعم للمنظمات الإرهابية التي أطلقت الرصاص على أبناء شعبنا في 15 يوليو/تموز، ولا تزال تهاجم الأراضي التركية، وتشهر السلاح في وجه مؤسسات الدولة التركية العسكرية والأمنية.
نهضة صناعية
وكما يقول المثل، "الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك"، فقد تعلمنا من الانقلاب الفاشل كيف نعتمد على أنفسنا لتلبية احتياجاتنا الدفاعية والتقنية والاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، في المجال الدفاعي، عززت الصناعات الدفاعية التركية قدرات الجيش وقوات الأمن بعدد كبير من الأسلحة والمعدات المحلية المتطورة. كما تم بنجاح إجراء تجارب الطيران لمقاتلتنا الحربية الوطنية "كان" (KAAN)، التي ستنضم إلى الخدمة في السنوات القادمة، لتعزيز قوة صقور قواتنا الجوية.
كما انطلقت في سماء الوطن "كيزل إلما" (KIZIL ELMA)، أول مسيرة نفاثة محلية الصنع، لتلحق قريبًا بالمسيرات الأخرى التي دخلت الخدمة الفعلية في جيشنا، مثل: "أقينجي" (AKINCI) و"آق صونغور" (AKSUNGUR). كما دخلت الخدمة أكبر قطعة حربية في أسطول قواتنا البحرية، وهي "تي سي جي أناضولو" (TCG Anadolu)، كأول حاملة طائرات تركية بصناعة محلية وتكنولوجيا فائقة التطور. وقد شهدت الصناعات العسكرية نموًا كبيرًا بهدف تأمين احتياجات البلاد، مع التوسع الكبير في مجال التصدير.
نحن فخورون بأن تركيا أصبحت واحدة من الدول القليلة في العالم التي تصنع الطائرات غير المأهولة، وقد أبرمنا عقودًا مع عشرات الدول لشراء مسيراتنا المتطورة، لا سيما أنها أثبتت كفاءتها العالية في ميدان القتال، وحازت على ثقة عدد من الدول، مثل: أذربيجان وأوكرانيا وبولندا وإثيوبيا وليبيا وقطر. وقد ساهمت الطائرة المسيرة التركية "أقينجي" في تحديد مكان سقوط طائرة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي ورفاقه، بعد دخولها الأجواء الإيرانية بناءً على اتصالات رسمية بين أنقرة وطهران.
مسيرة لن تتوقف
لقد عززنا قرارنا الوطني بفرض السيادة الكاملة على مياهنا الاقتصادية، وها هي سفن الاستكشاف البحري تمسح مياهنا الاقتصادية بحثًا عن مكامن الطاقة. وبفضل هذه الجهود، تم توصيل الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأسود إلى منازلنا ومصانعنا في العام الماضي.
يسعدنا أن نشارك شعبنا التركي إحياء هذه الذكرى المجيدة من أرض قطر الطيبة، التي سجلت في تلك الليلة موقفًا أخويًا تاريخيًا لا يُنسى. ففي تلك الليلة، كان صاحب السمو أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول المتصلين بأخيه فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، للتعبير عن المساندة القطرية المطلقة للحكومة الشرعية، والوقوف صفًا واحدًا مع الشعب التركي لإحباط أي مؤامرة تمس أمنه وحقوقه وسلامة مؤسساته.
إننا نؤمن إيمانًا راسخًا بأن مسيرة الحرية والاستقلال التي بدأت في الخامس عشر من يوليو/تموز 2016، سوف تستمر بفضل إيماننا العميق وتضحياتنا الغالية وعزيمتنا التي لا تلين. كما أن ثقتنا لا تتزعزع في أن تركيا سوف تنطلق نحو حقبة تنموية جديدة على كافة المستويات، تحقق تطلعات شعبنا النبيلة وتؤسس لنهضته الشاملة.